السلام عليكم.....
في زمان ومكان غير معروفين لنا الآن، كانت توجد قرية مشركة. ضل ملكها وأهلها عن الطريق المستقيم، وعبدوا مع الله مالا يضرهم ولا ينفعهم. عبدوهم من غير أي دليل على ألوهيتهم. ومع ذلك كانوا يدافعون عن هذه الآلهة المزعومة، ولا يرضون أن يمسها أحد بسوء. ويؤذون كل من يكفر بها، ولا يعبدها.
في هذه المجتمع الفاسد، ظهرت مجموعة من الشباب العقلاء. ثلة قليلة حكّمت عقلها، ورفضت السجود لغير خالقها، الله الذي بيده كل شيء. فتية، آمنوا بالله، فثبتهم وزاد في هداهم. وألهمهم طريق الرشاد.
لم يكن هؤلاء الفتية أنبياء ولا رسلا، ولم يتوجب عليهم تحمل ما يتحمله الرسل في دعوة أقواهم. إنما كانوا أصحاب إيمان راسخ، فأنكروا على قومهم شركهم بالله، وطلبوا منهم إقامة الحجة على وجود آلهة غير الله. ثم قرروا النجاة بدينهم وبأنفسهم بالهجرة من القرية لمكان آمن يعبدون الله فيه. فالقرية فاسدة، وأهلها ضالون.
عزم الفتية على الخروج من القرية، والتوجه لكهف مهجور ليكون ملاذا لهم. خرجوا ومعهم كلبهم من المدينة الواسة، للكهف الضيق. تركوا وراءهم منازلهم المريحة، ليسكنوا كهفا موحشا. زهدوا في الأسرّية الوثيرة، والحجر الفسيحة، واختاروا كهفا ضيقا مظلما.
إن هذا ليس بغريب على من ملأ الإيمان قلبه. فالمؤمن يرى الصحراء روضة إن أحس أن الله معه. ويرى الكهف قصرا، إن اختار الله له الكهف. وهؤلاء ما خرجوا من قريتهم لطلب دنيا أو مال، وإنما خرجوا طمعا في رضى الله. وأي مكان يمكنهم فيه عبادة الله ونيل رضاه سيكون خيرا من قريتهم التي خرجوا منها.
استلقى الفتية في الكهف، وجلس كلبهم على باب الكهف يحرسه. وهنا حدثت معجزة إلاهية. لقد نام الفتية ثلاثمئة وتسع سنوات. وخلال هذه المدة، كانت الشمس تشرق عن يمين كهفهم وتغرب عن شماله، فلا تصيبهم أشعتها في أول ولا آخر النهار. وكانوا يتقلبون أثناء نومهم، حتى لا تهترئ أجاسدهم. فكان الناظر إليهم يحس بالرعب. يحس بالرعب لأنهم نائمون ولكنهم كالمستيقظين من كثرة تقلّبهم.
بعد هذه المئين الثلاث، بعثهم الله مرة أخرى. استيقضوا من سباتهم الطويل، لكنهم لم يدركوا كم مضى عليهم من الوقت في نومهم. وكانت آثار النوم الطويل بادية عليهم. فتساءلوا: كم لبثنا؟! فأجاب بعضهم: لبثنا يوما أو بعض يوم. لكنهم تجاوزوا بسرعة مرحلة الدهشة، فمدة النوم غير مهمة. المهم أنهم استيقظوا وعليهم أن يتدبروا أمورهم.
فأخرجوا النقود التي كانت معهم، ثم طلبوا من أحدهم أن يذهب خلسة للمدينة، وأن يشتري طعاما طيبا بهذه النقود، ثم يعود إليهم برفق حتى لا يشعر به أحد. فربما يعاقبهم جنود الملك أو الظلمة من أهل القرية إن علموا بأمرهم. قد يخيرونهم بين العودة للشرك، أو الرجم حتى الموت.
خرج الرجل المؤمن متوجها للقرية، إلا أنها لم تكن كعهده بها. لقد تغيرت الأماكن والوجوه. تغيّرت البضائع والنقود. استغرب كيف يحدث كل هذا في يوم وليلة. وبالطبع، لم يكن عسيرا على أهل القرية أن يميزوا دهشة هذا الرجل. ولم يكن صبعا عليهم معرفة أنه غريب، من ثيابه التي يلبسها ونقوده التي يحملها.
لقد آمن المدينة التي خرج منها الفتية، وهلك الملك الظالم، وجاء مكانه رجل صالح. لقد فرح الناس بهؤلاء الفتية المؤمنين. لقد كانوا أول من يؤمن من هذه القرية. لقد هاجروا من قريتهم لكيلا يفتنوا في دينهم. وها هم قد عادوا. فمن حق أهل القرية الفرح. وذهبوا لرؤيتهم.
وبعد أن ثبتت المعجزة، معجزة إحياء الأموات. وبعدما استيقنت قلوب أهل القرية قدرة الله سبحانه وتعالى على بعث من يموت، برؤية مثال واقي ملموس أمامهم. أخذ الله أرواح الفتية. فلكل نفس أجل، ولا بد لها أن تموت. فاختلف أهل القرية. فمن من دعى لإقامة بنيان على كهفهم، ومنهم من طالب ببناء مسجد، وغلبت الفئة الثانية.
لا نزال نجهل كثيرا من الأمور المتعلقة بهم. فهل كانوا قبل زمن عيسى عليه السلام، أم كانوا بعده. هل آمنوا بربهم من من تلقاء نفسهم، أم أن أحد الحواريين دعاهم للإيمان. هل كانوا في بلدة من بلاد الروم، أم في فلسطين. هل كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، أم خمسة سادسهم كلبهم، أم سبعة وثامنهم كلبهم. كل هذه أمور مجهولة. إلا أن الله عز وجل ينهانا عن الجدال في هذه الأمور، ويأمرنا بإرجاع علمهم إلى الله. فالعبرة ليست في العدد، وإنما فيما آل إليه الأمر. فلا يهم إن كانوا أربعة أو ثمانية، إنما المهم أن الله أقامهم بعد أكثر من ثلاثمئة سنة ليرى من عاصرهم قدرة على بعث من في القبور، ولتتناقل الأجيال خبر هذه المعجزة جيلا بعد جيل.
(اصحــــاب الفيــــل)
كانت اليمن تابعة للنجاشي ملك الحبشة. وقام والي اليمن (أبرهة) ببناء كنيسة عظيمة، وأراد أن يغيّر وجهة حجّ العرب. فيجعلهم يحجّون إلى هذه الكنيسة بدلا من بيت الله الحرام. فكتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك, ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب. إلا أن العرب أبوا ذلك، وأخذتهم عزتهم بمعتقداتهم وأنسابهم. فهم أبناء إبراهيم وإسماعيل، فكيف يتركون البيت الذي بناه آباءهم ويحجّوا لكنيسة بناها نصراني! وقيل أن رجلا من العرب ذهب وأحدث في الكنيسة تحقيرا لها. وأنا بنو كنانة قتلوا رسول أبرهة الذي جاء يطلب منهم الحج للكنيسة.
فعزم أبرهة على هدم الكعبة. وجهّز جيشا جرارا، ووضع في مقدمته فيلا مشهورا عندهم يقال أن اسمه محمود. فعزمت العرب على تقال أبرهة. وكان أول من خرج للقاءه، رجل من أشراف من اليمن يقال له ذو نفر. دعى قومه فأجابوه، والتحموا بجيش أبرهة. لكنه هُزِم وسيق أسيرا إلى أبرهة.
ثم خرج نفيل بن حبيب الخثعمي، وحارب أبرهة. فهزمهم أبرهة وأُخِذَ نفيل أسيرا، وصار دليلا لجيش أبرهة. حتى وصلوا للطائف، فخرج رجال من ثقيف، وقالوا لأبرهة أن الكعبة موجودة في مكة –حتى لا يهدم بيت اللات الذي بنوه في الطائف- وأرسلوا مع الجيش رجلا منهم ليدلّهم على الكعبة! وكان اسم الرجل أبو رغال. توفي في الطريق ودفن فيها، وصار قبره مرجما عند العرب. فقال الشاعر:
وأرجم قبره في كل عام * * * كرجم الناس قبر أبي رغال
وفي مكان يسمى المغمس بين الطائف ومكة، أرسل أبرهة كتيبة من جنده، ساقت له أموال قريش وغيرها من القبائل. وكان من بين هذه الأموال مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، كبير قريش وسيّدها. فهمّت قريش وكنانة وهذيل وغيرهم على قتال أبرهة. ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك .
وبعث أبرهة رسولا إلى مكة يسأل عن سيد هذا البلد, ويبلغه أن الملك لم يأت لحربهم وإنما جاء لهدم هذا البيت, فإن لم يتعرضوا له فلا حاجة له في دمائهم! فإذا كان سيد البلد لا يريد الحرب جاء به إلى الملك. فلما أخب الرسول عبد المطلب برسالة الملك، أجابه: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة. هذا بيت الله الحرام. وبيت خليله إبراهيم عليه السلام.. فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه, وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه.
ثم انطلق عبد المطلب مع الرسول لمحادثة أبرهة. وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم. فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه, وأكرمه عن أن يجلسه تحته, وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه. فنزل أبرهة عن سريره, فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جانبه. ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك? فقال: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال ذلك, قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك, ثم قد زهدت فيك حين كلمتني! أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه? قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل. وإن للبيت رب سيمنعه. فاستكبر أبرهة وقال: ما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك!.. فردّ أبرهة على عبد المطلب إبله.
ثم عاد عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم بما حدث، وأمرهم بالخروج من مكة والبقاء في الجبال المحيطة بها. ثم توجه وهو ورجال من قريش إلى للكعبة وأمسك حلقة بابها، وقاموا يدعون الله ويستنصرونه. ثم ذهب هو ومن معه للجبل.
ثم أمر أبرهة جيشه والفيل في مقدمته بدخول مكة. إلا أن الفيل برك ولم يتحرك. فضربوه ووخزوه، لكنه لم يقم من مكانه. فوجّهوه ناحية اليمن، فقام يهرول. ثم وجّهوه ناحية الشام، فتوجّه. ثم وجّهوه جهة الشرق، فتحرّك. فوجّهوه إلى مكة فَبَرَك.
ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده, فأرسل عليهم جماعات من الطير، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار: حجر في منقاره, وحجران في رجليه, أمثال الحمص والعدس, لا تصيب منهم أحدا إلا هلك. فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة. فهاج الجيش وماج، وبدوا يسألون عن نفيل بن حبيب; ليدلهم على الطريق إلى اليمن. فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفر والإله الطالب * * * والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال أيضا:
حمدت الله إذ أبصرت طيرا * * * وخفت حجارة تلقى علينا
فكل القوم يسأل عن نفيـل * * * كأن علي للحبشان دينـا
وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يتساقط لحمه قطعا صغيرة تلو الأخرى، حتى وصلوا إلى صنعاء, فما مات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات.
إن لهذه القصة دلالات كثيرة يصفا الأستاذ سيّد قطب رحمه الله في كتابه (في ظلال القرآن):
فأما دلالة هذا الحادث والعبر المستفادة من التذكير به فكثيرة . .
وأول ما توحي به أن الله - سبحانه - لم يرد أن يكل حماية بيته إلى المشركين، ولو أنهم كانوا يعتزون بهذا البيت, ويحمونه ويحتمون به. فلما أراد أن يصونه ويحرسه ويعلن حمايته له وغيرته عليه ترك المشركين يهزمون أمام القوة المعتدية. وتدخلت القدرة سافرة لتدفع عن بيت الله الحرام, حتى لا تتكون للمشركين يد على بيته ولا سابقة في حمايته, بحميتهم الجاهلية.
كذلك توحي دلالة هذا الحادث بأن الله لم يقدر لأهل الكتاب - أبرهة وجنوده - أن يحطموا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة. حتى والشرك يدنسه, والمشركون هم سدنته. ليبقي هذا البيت عتيقا من سلطان المتسلطين, مصونا من كيد الكائدين.
ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن, إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من الصليبية العالمية والصهيونية العالمية, ولا تني أو تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة. فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنته مشركون, سيحفظه إن شاء الله, ويحفظ مدينة رسوله من كيد الكائدين ومكر الماكرين!
والإيحاء الثالث هو أن العرب لم يكن لهم دور في الأرض. بل لم يكن لهم كيان قبل الإسلام. كانوا في اليمن تحت حكم الفرس أو الحبشة. وكانت دولتهم حين تقوم هناك أحيانا تقوم تحت حماية الفرس. وفي الشمال كانت الشام تحت حكم الروم إما مباشرة وإما بقيام حكومة عربية تحت حماية الرومان. ولم ينج إلا قلب الجزيرة من تحكم الأجانب فيه. ولكنه ظل في حالة تفكك لا تجعل منه قوة حقيقية في ميدان القوى العالمية. وكان يمكن أن تقوم الحروب بين القبائل أربعين سنة, ولكن لم تكن هذه القبائل متفرقة ولا مجتمعة ذات وزن عند الدول القوية المجاورة. وما حدث في عام الفيل كان مقياسا لحقيقة هذه القوة حين تتعرض لغزو أجنبي.
وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه. وأصبحت لهم قوة دولية يحسب لها حساب. قوة جارفة تكتسح الممالك وتحطم العروش, وتتولى قيادة البشرية, بعد أن تزيح القيادات الضالة. ولكن الذي هيأ للعرب هذا لأول مرة في تاريخهم هو أنهم نسوا أنهم عرب! نسوا نعرة الجنس, وعصبية العنصر, وذكروا أنهم ومسلمون. مسلمون فقط. ورفعوا راية الإسلام, وراية الإسلام وحدها. وحملوا عقيدة ضخمة قوية يهدونها إلى البشرية رحمة برا بالبشرية; ولم يحملوا قومية ولا عنصرية ولا عصبية. حملوا فكرة سماوية يعلمون الناس بها لا مذهبا أرضيا يخضعون الناس لسلطانه. وخرجوا من أرضهم جهادا في سبيل الله وحده, ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها, ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها, ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكمهم أنفسهم! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعا إلى عبادة الله وحده. عندئذ فقط كان للعرب وجود, وكانت لهم قوة, وكانت لهم قيادة. ولكنها كانت كلها لله وفي سبيل الله. وقد ظلت لهم قوتهم. وظلت لهم قيادتهم ما استقاموا على الطريقة. حتى إذا انحرفوا عنها وذكروا عنصريتهم وعصبيتهم, وتركوا راية الله ليرفعوا راية العصبية نبذتهم الأرض وداستهم الأمم, لأن الله قد تركهم حيثما تركوه، ونسيهم مثلما نسوه!
وما العرب بغير الإسلام? ما الفكرة التي قدموها للبشرية أو يملكون تقديمها إذا هم تخلوا عن هذه الفكرة? وما قيمة أمة لا تقدم للبشرية فكرة? إن كل أمة قادت البشرية في فترة من فترات التاريخ كانت تمثل فكرة. والأمم التي لم تكن تمثل فكرة كالتتار الذين اجتاحوا الشرق, والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرومانية في الغرب لم يستطيعوا الحياة طويلا, إنما ذابوا في الأمم التي فتحوها. والفكرة الوحيدة التي تقدم بها العرب للبشرية كانت هي العقيدة الإسلامية, وهي التي رفعتهم إلى مكان القيادة, فإذا تخلوا عنها لم تعد لهم في الأرض وظيفة, ولم يعد لهم في التاريخ دور. وهذا ما يجب أن يذكره العرب جيدا إذا هم أرادوا الحياة, وأرادوا القوة، وأرادوا القيادة. والله الهادي من الضلال.
(بقــــرة بني اسرائــيل)
مكث موسى في قومه يدعوهم إلى الله. ويبدو أن نفوسهم كانت ملتوية بشكل لا تخطئه عين الملاحظة، وتبدو لجاجتهم وعنادهم فيما يعرف بقصة البقرة. فإن الموضوع لم يكن يقتضي كل هذه المفاوضات بينهم وبين موسى، كما أنه لم يكن يستوجب كل هذا التعنت. وأصل قصة البقرة أن قتيلا ثريا وجد يوما في بني إسرائيل، واختصم أهله ولم يعرفوا قاتله، وحين أعياهم الأمر لجئوا لموسى ليلجأ لربه. ولجأ موسى لربه فأمره أن يأمر قومه أن يذبحوا بقرة. وكان المفروض هنا أن يذبح القوم أول بقرة تصادفهم. غير أنهم بدءوا مفاوضتهم باللجاجة. اتهموا موسى بأنه يسخر منهم ويتخذهم هزوا، واستعاذ موسى بالله أن يكون من الجاهلين ويسخر منهم. أفهمهم أن حل القضية يكمن في ذبح بقرة.
إن الأمر هنا أمر معجزة، لا علاقة لها بالمألوف في الحياة، أو المعتاد بين الناس. ليست هناك علاقة بين ذبح البقرة ومعرفة القاتل في الجريمة الغامضة التي وقعت، لكن متى كانت الأسباب المنطقية هي التي تحكم حياة بني إسرائيل؟ إن المعجزات الخارقة هي القانون السائد في حياتهم، وليس استمرارها في حادث البقرة أمرا يوحي بالعجب أو يثير الدهشة.
لكن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل. مجرد التعامل معهم عنت. تستوي في ذلك الأمور الدنيوية المعتادة، وشؤون العقيدة المهمة. لا بد أن يعاني من يتصدى لأمر من أمور بني إسرائيل. وهكذا يعاني موسى من إيذائهم له واتهامه بالسخرية منهم، ثم ينبئهم أنه جاد فيما يحدثهم به، ويعاود أمره أن يذبحوا بقرة، وتعود الطبيعة المراوغة لبني إسرائيل إلى الظهور، تعود اللجاجة والالتواء، فيتساءلون: أهي بقرة عادية كما عهدنا من هذا الجنس من الحيوان؟ أم أنها خلق تفرد بمزية، فليدع موسى ربه ليبين ما هي. ويدعو موسى ربه فيزداد التشديد عليهم، وتحدد البقرة أكثر من ذي قبل، بأنها بقرة وسط. ليست بقرة مسنة، وليست بقرة فتية. بقرة متوسطة.
إلى هنا كان ينبغي أن ينتهي الأمر، غير أن المفاوضات لم تزل مستمرة، ومراوغة بني إسرائيل لم تزل هي التي تحكم مائدة المفاوضات. ما هو لون البقرة؟ لماذا يدعو موسى ربه ليسأله عن لون هذا البقرة؟ لا يراعون مقتضيات الأدب والوقار اللازمين في حق الله تعالى وحق نبيه الكريم، وكيف أنهم ينبغي أن يخجلوا من تكليف موسى بهذا الاتصال المتكرر حول موضوع بسيط لا يستحق كل هذه اللجاجة والمراوغة. ويسأل موسى ربه ثم يحدثهم عن لون البقرة المطلوبة. فيقول أنها بقرة صفراء، فاقع لونها تسر الناظرين.
وهكذا حددت البقرة بأنها صفراء، ورغم وضوح الأمر، فقد عادوا إلى اللجاجة والمراوغة. فشدد الله عليهم كما شددوا على نبيه وآذوه. عادوا يسألون موسى أن يدعو الله ليبين ما هي، فإن البقر تشابه عليهم، وحدثهم موسى عن بقرة ليست معدة لحرث ولا لسقي، سلمت من العيوب، صفراء لا شية فيها، بمعنى خالصة الصفرة. انتهت بهم اللجاجة إلى التشديد. وبدءوا بحثهم عن بقرة بهذه الصفات الخاصة. أخيرا وجدوها عند يتيم فاشتروها وذبحوها.
وأمسك موسى جزء من البقرة (وقيل لسانها) وضرب به القتيل فنهض من موته. سأله موسى عن قاتله فحدثهم عنه (وقيل أشار إلى القاتل فقط من غير أن يتحدث) ثم عاد إلى الموت. وشاهد بنو إسرائيل معجزة إحياء الموتى أمام أعينهم، استمعوا بآذانهم إلى اسم القاتل. انكشف غموض القضية التي حيرتهم زمنا طال بسبب لجاجتهم وتعنتهم.
نود أن نستلفت انتباه القارئ إلى سوء أدب القوم مع نبيهم وربهم، ولعل السياق القرآني يورد ذلك عن طريق تكرارهم لكلمة "ربك" التي يخاطبون بها موسى. وكان الأولى بهم أن يقولوا لموسى، تأدبا، لو كان لا بد أن يقولوا: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) ادع لنا ربنا. أما أن يقولوا له: فكأنهم يقصرون ربوبية الله تعالى على موسى. ويخرجون أنفسهم من شرف العبودية لله. انظر إلى الآيات كيف توحي بهذا كله. ثم تأمل سخرية السياق منهم لمجرد إيراده لقولهم: (الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) بعد أن أرهقوا نبيهم ذهابا وجيئة بينهم وبين الله عز وجل، بعد أن أرهقوا نبيهم بسؤاله عن صفة البقرة ولونها وسنها وعلاماتها المميزة، بعد تعنتهم وتشديد الله عليهم، يقولون لنبيهم حين جاءهم بما يندر وجوده ويندر العثور عليه في البقر عادة.
ساعتها قالوا له: "الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ". كأنه كان يلعب قبلها معهم، ولم يكن ما جاء هو الحق من أول كلمة لآخر كلمة. ثم انظر إلى ظلال السياق وما تشي به من ظلمهم: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ) ألا توحي لك ظلال الآيات بتعنتهم وتسويفهم ومماراتهم ولجاجتهم في الحق؟ هذه اللوحة الرائعة تشي بموقف بني إسرائيل على موائد المفاوضات. هي صورتهم على مائدة المفاوضات مع نبيهم الكريم موسى.